faresaly )* ادارى *(
المساهمات : 207 تاريخ التسجيل : 02/08/2008
| موضوع: حديث الشيخ (الحلقة الثالثة) 29/1/2009, 7:36 pm | |
| وقبل أن تعود إلى الغرفة الأخرى همست : - سأدعوك من هذه الساعة .. ( مُريد ) . قال أبو الحسن الورَّاق : واستمر القوم في حديثٍ وضحك وانشراح حتى أصبح الصباح ، وارتفع صوت المؤذن من المسجد القريب يدعو .. حي على الفلاح . فتنهَّد حبيب بن مسعود وقال : - هذه ليلة من عمرنا خسرناها . قال : وخرج القوم فردًا فردًا ، وكان خروجهم بعد صلاة الفجر بقليل ، وسلك كل منهم طريقًا غير الذي سلكه صاحبه .
نداء الروح
قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي : خرج يسار من بيته الذي يحاذي النهر قبل نداء الفجر ، وسار في طريقه إلى المسجد ، هذه صفحة جديدة قد انفتحت في سجل الوجود ، هذا يوم جديد ، إنه يستمع إليه ، وكأنه يتحدث حديث الروح للروح .. أنا يوم جديد ، وعلى عملك شهيد فتزود مني .. فإني لا أعود إلى يوم القيامة . كانت الريح باردة ، وشديدة ، تُمزِّق بعض الهدوء المخيِّم على الكون وقد أحاطت بالقمر دائرة بيضاء واسعة تحميه من هوج الرياح . وانطفأت بعض الفوانيس ، وما بقي منها أخذ يعاني أنفاسه الأخيرة . كان يسير ولسانه لا يفتر عن ذكر الله ، كان يشعر بجلال هذا المنظر وبرهبة تسري في كيانه .. أنه يذكِّره بالآخرة .. كل شيء في هذا الوقت يذكِّره بالآخرة ، حتى الحارس الذي انزوى في الركن القصي من الزقاق وقد التف بعباءته وكوَّم نفسه على دكة بيت القاضي . البيوت الساكنة الساكتة ، والنوافذ المغلقة ، والشارع الصامت .. وترامى إلى سمعه من جهة النهر ، صوت فتى ركب زورقًا ، وراح يضرب بمجدافه ويغني غناء حزينًا تتجاوب أصداؤه مع أمواج النهر ، وتحمله الريح الباردة ، ويستمع إليه الكون في صمت خاشع . كان يردد على أوتار قلبه المعنى : (( يا رب يا عالمًا بالسر يا ربي )) يردد هذا الشطر كثيرًا ، ثم يتبعه بشطر آخر لم يتبين يسار من كلماته إلا الكلمة الأخيرة (( ... ذنبي )) . ومضى يسار يستمع إلى حديث الفجر ، المُضمَّخ بأنفاس الآخرة ، وتعجَّب كيف ينام الناس في هذا الوقت ؟ كيف لم ينهضوا فيرتشفوا من سر الصباح حياة تعمر حياتهم ، ونورًا يضيء نفوسهم وحكمة تضعهم على باب الحقيقة الخالدة ، التي كتب عليها بمداد السماء منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى . في هذا السكون الشامل ، والمنظر الرهيب ، وصوت الفتى الحزين ، تذكَّر يسار حديث الشيخ عن الآخرة ، كان ينصت إليه بكل جوارحه ، والشيخ يصف الآخرة وصفًا كأنَّه رآها بعينيه ، كأنه اطَّلع على كل ما فيها ثم جاء يحدثنا ولسان حاله يقول : أنا النذير العريان . لم ير الشيخ يبكي في يوم من الأيام ، ولا يخرج عن حاله ، ولكنه كان يشعر من خلال صوته ، من اهتزاز نبراته ، من شدة تأثره ، كأن الدموع تنزل من قلبه ، كأنه يبكي بصمت .. أما هو .. الشاب المرهف الرقيق الحس ، الذي يتفجر قلبه بالعواطف فلا يستطيع أن يتمالك نفسه من البكاء .. كان حديث الشيخ يبدأ بعد صلاة الفجر ، وكان لا يزيد على دقائق معدودات ، وكان يهز القلوب ، يملؤها ، ويحرك النفوس إلى طاعة الله ، إلى معرفة الطريق إلى الله . كان يبدأ حديثه هادئًا هدوء الفجر طريًا نديًا ، جميلاً جديدًا جادًا ، لا يتكلف ، ولا يأتي بالغريب ، ولا يذهب مذاهب الوعَّاظ والمعلمين .. كانت كلماته تسري إلى نفوس مريديه فتنجذب إليه ، تهفو لسماعه وترغب في المزيد ، يود الواحد منهم لو يقول له : لا تتوقف يا شيخ .. لا تُنه حديثك .. ولكنهم لم يكونوا يقولونها ؛ لأنهم يعلمون أن الشيخ يرى أن ما حدَّثهم فيه الكفاية ، وسوف يواصل حديثه غدًا ، وفي مثل هذا الوقت . لقد عاش يسار هذه المعاني الإيمانية ، وامتلأت بها نفسه ، ووقف على باب قلبه يرد عنه كل طارق غير الله ، فنشطت أعضاؤه إلى طاعة الله ، وازدانت نفسه بالإيمان ، الإيمان الذي يضيء القلب ، وينعش الروح ويخلع عنها أردية الكسل والخمول ، ويضفي عليها حلل البهجة والراحة والسرور . وكانت قراءة الإمام ، وهو يؤم المصلين ، حزينة مترسِّلة ، وفي صوته رعشة تهز القلوب . وقناديل المسجد التي تنشر نورًا خافتًا دافئًا ، والجدران السميكة البيضاء ، والأعمدة الصاعدة الصامتة وكل حجر ، كل نأمة ، كل شيء .. كل شيء .. كأن جبريل قد نزل في تلك الساعة يتلو بصوته الملائكي إن قرآن الفجر كان مشهودًا . قال أبو الحسن الورَّاق : وبعد صلاة الفجر جلس الشيخ يتحدث .. بعد تلك الرحلة السماوية التي استمد فيها المصلون من السماء سببًا إلى السماء . جلس الشيخ يتحدث عن يوسف الصديق ، الفتى الذي ضرب مثلاً أعلى في الصبر عن المرأة المغرمة العاشقة الوَلْهى . وأخذ يصف ثباته وعِفَّته ، وخشيته لله ، ومراقبته له ، وتعبُّده وتصوُّنه .. كان يتكلم بأسلوب القرآن الواضح البليغ ، وبعرضه التصويري البديع ، كانت أنفاس الكتاب الكريم تعبق من أنفاسه ، وشذى السلف الصالح ونسيم ريَّاهم من نسيمه .. وكل مُريد يشعر أنه يوسف نفسه . قال : ومما يزيد في تأثير حديث الشيخ ، مكانته في نفوس مريديه ، وسطوع حجته ، ونبرات صوته ، وحسن إلقائه ، ومحكم إشاراته ، وكانت عيونه تنطق بالحب لكل واحدٍ منهم ، كان يشعر كل واحد بأنه يهتم به وحده ، دون غيره ، يهتمُّ بشؤونه وشجونه .. فتتفتح نفس المريد ، ويصارح الشيخ بما لم يصارح به أحدًا من الخلق ، والشيخ يصغي إليه ، ثم يشير عليه ، ويثبته ويرشده ، ويأخذ بيده ، يُعينه على مواصلة السير في قافلة الإيمان .. قال أبو العرفان : كان يسار يتردد بين حين وآخر على سوق العطَّارين ، وإلى هذا السوق تُجلب أجود أنواع العطور في الدنيا ، ويؤمَّه الرجال والنساء من شتى الأجناس . ولا شيء يستهوي النساء ، وخاصة الأعجميات ، كهذا السوق .. وهو أول ما يستهوي الوفود القادمة من بلاد الروم والترك وفارس والهند ، ومن بلاد الحبشة .. وبلاد أخرى بعيدة لم نسمع بها .. وسوق العطَّارين .. يمتاز بالأناقة والنظافة والجمال ، فيه الدكاكين الصغيرة المتناسقة ، التي زينت واجهاتها وعني بمظهرها .. والمصابيح الملونة ، وقوارير العطر ، وشدات الورد . وكان يسار يتردد على دكان العطَّار أبي علي الأصفهاني ، ومنه يشتري العطر الذي يستعمله .. وهو يقول : إن النبي - - كان يحب الطيب . وبعد مضي أسبوعين على محاولة الجارية ، وفي عصر الأربعاء من نهار مشمس جميل ، أقبل يسار على أبي علي الأصفهاني ، وكان هذا قصيرًا سمينًا ، قد أعفى لحيته وخضبها ، وكان لا يكف عن الحديث عن العطور التي يبيعها وأنواعها وجودتها .. وما هي إلا هَنَيْهة ، حتى أقبلت الجارية ، والخادم مريد يسير إلى جانبها ووقفت على دكان أبي علي العطَّار ، وراحت تسأله باللغة الفارسية عما لديه من العطور ، دون أن تلتفت إلى يسار .. أما مريد فإنه ألقى التحية عليه ، ووقف ينتظر . واحتفل العطَّار بها ، وأخذ يعرض عليها نماذج كثيرة ، وهي ترفضها بإشارة من يدها ، ولم يبد على يسار أي اهتمام بالجارية ، ولكنه انتبه بعد ذلك عندما سمع العطَّار يقول باللغة العربية ، وهو يعرض عليها نوعًا من العطر : - إنه أجود أنواع العطور يا سيدتي ، إن يسارًا يستعمله . أليس كذلك يا سيدي ؟ ولم يجب يسار ، ولم يرفع إليها نظره . أما الجارية ، فقد التفتت إليه ، وألقت عليه نظرة سريعة ، ثم عادت تخاطب العطَّار ، وقد غيرت من أسلوبها وحركاتها وقالت : - لقد ذكرت لي مرة أن لديك نوعًا من العطر الصيني .. فهزَّ العطار رأسه وقال بأسف : - لقد نفذ يا سيدي .. لم يبق منه شيء .. أتدرين يا سيدتي .. إنه يستخرج من زهرة الحياة ، إنها زهرة تنبت على الهضاب الزرقاء في بلاد الصين ، إن أوراقها يا سيدتي تجلب الشفاء .. إنها .. وانتبه العطَّار .. إن الجارية لم تكن تنظر إليه ، ولا تستمع لحديثه ، كانت تنظر خِلْسة إلى يسار .. إلى الفتى الذي ضاق بحديث العطار ، والذي سمعه منه مرات ومرات .. هذا هو الفتى الذي حدَّثها عنه حبيب بن مسعود ، إنه لم يتجاوز في وصفه ، بل لم يبلغ في وصفه .. وتنحنح العطَّار وهو يرفع يده يعدل عمامته .. وقال : - انتظري لحظه .. ثم خرج من دكانه وهو يقول : - سأجلب لك من آخر السوق . وهمَّ يسار بالانصراف ، فلم يكن يرغب في البقاء طويلاً في مثل هذا السوق ، ولم يكن يلبث إلا بمقدار ما يتناول حاجته من العطر ثم يعود سريعًا .. قال أبو العرفان : فالتفتت إليه الجارية وقالت بصوت ناعم : - إنني متأسفة يا سيدي . والتفت إليها ، ولم يكن قد وقع عليها نظره حتى هذه الساعة ، فلما التقت العينان ، أسبلت جفونها في خفر العذارى ، وقالت بصوت هامس : - إنني متأسفة يا سيدي .. لم أستطع أن أكتب مشكلتي .. ليتك تسمعها . فغض بصره ، وقد تذكر الرقعة التي حملها إليه مريد ، وقال : - تكلَّمي : قالت .. وبصوت كأنين الوتر الحزين : - الآن يا سيدي ؟ قال ، ودون أن يلتفت إليها ، أو يرفع نظره مرة أخرى : - نعم . قالت .. وهي تحاول أن تجره للحديث : - هنا في السوق ؟ قال : نعم . وعاد العطَّار وهو يمسح جبينه من العرق وينفخ ، وقال متعذرًا : - لم يبق لديه شيء يا سيدتي . وتنهَّدت الجارية وقالت : - سأعود مرة أخرى . ثم انصرف بعد أن ألقت على يسار نظرة ، جعلته يطرق خجلاً . ثم انتبه إلى صوت العطَّار يقول : - إن هذه الجارية ليست فارسية . والتفت يسار ، وكأنه يسأله .. فأضاف العطَّار قائلاً : - إنها ليست فارسية .. علمت ذلك من لهجتها . قال أبو العرفان : أبو علي العطَّار أعلم بلهجات القوم من غيره . قال أبو الحسن الورَّاق : لم تنل الجارية من يسار ، إلا كما ينال التراب من السحاب ، كيف لا .. وهو الفتى الذي لم يترك ثغرة ينفذ منها الشيطان إلى نفسه إلا أغلقها . وعندما عاد تلك الليلة ، بعد صلاة العشاء ، وقبل أن يقف للصلاة لقيام الليل ، خيل إليه كأنه يسمع همسة ، أو لحنًا ، أو صوتًا أليفًا ..! ولم يفكر في ذلك ، وإنما انصرف إلى صلاته ، لا يشغله عنها شاغل ، فالليل مركب الصالحين ، ومطيَّة العباد ، وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل . وبعد أن صلى ثماني ركعات ، وختمها بصلاة الوتر ، استلقى على فراشه ، وأخذ يردد بصوت خافت خاشع .. باسمك ربي وضعت جنبي ، وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فاغفر لها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين .. وقبل أن يلفه النوم بين أحضانه ، تذكر أين سمع ذلك الهمس ، أو اللحن .. سمعه عصر اليوم ، عند دكان العطَّار ، سمعه من الجارية الفارسية التي ذكرت أن لديها مشكلة تريد أن تعرضها عليه . وأسرع يسار فصرف هذه الخواطر ، وشعر أنها دخيلة عليه ، دخيلة على محرابه الآمن الذي تعمره التقوى ، إنها ليست من مدد السماء . وانتقل إلى جو الآية التي كان يرددها أثناء الصلاة : إن لدينا أنكالاً وجحيمًا وطعامًا ذا غصة وعذابًا أليمًا . كل هذا العذاب ينتظر الإنسان الضال ، الإنسان الآبق من رحمة الله ! إن الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا . وتدحرجت دمعة كبيرة على خده ، وتبعتها دموع ، حتى بلَّلت الوسادة ، ثم راح في نوم هادئ عميق . الرسالة | |
|
جهبذه الغد عضو فعال جداااااا
المساهمات : 250 تاريخ التسجيل : 09/08/2008 العمر : 31
| موضوع: رد: حديث الشيخ (الحلقة الثالثة) 31/1/2009, 7:39 pm | |
| جزاك الله خيرا شيخنا ننتظر المزيد | |
|