الجواب والله أعلم أن مهمة الأنبياء هي الدعوة لإصلاح الناس في علاقتهم مع انفسهم ومع بعضهم ومع خالقهم سبحانه , والأنبياء والنبوَّة والرسالة أعظم مهمة على الأرض فلا تدانيها أية وظيفة أو مهمة فإذا تفرغ النبي للعبادة وترك الناس وشأنهم فسيعم الفساد وستختلط الأمور على الناس وسيفقدون الأدب الذي يتلقونه من الأنبياء وسيشيع الظلم والبغي وسينحرف الناس عن مقصد خلقهم الذي اجمله الله سبحانه وتعالى في قوله في سورة البقرة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)) ففهم من هذه الآيات ان الاستخلاف هو ضد الفساد فيها وسفك الدماء لأن القاعد الأصولية بان الأشياء تعرف باضدادها , وضد الفساد فيها هو عمارتها بالصلاح وحقن الدماء وحفظ الحقوق والذي لا يتحقق إلاّبالعلم والوعي والحرية والعدل , وهذا يحتاج إلى من هم مؤهلون للخلافة الذين يكون شأن حياتهم الذي يدورون فيه ويعملون لأجله هو تحقيق هذا المقصد , ولا يفترون عن تحقيقه حتى يتم فهم هذا المقصد من قبل الكافة لتسهل حركتهم في هذه الحياة , ولا يتحقق ذلك إلاّ بأن يتولّى كل مسلم وراثة نبيه والتبليغ عنه بغية إيجاد المجتمع المؤمن ويعملون لتحقيق ذلك ولأجله ويعلمون الناس هذا الدور ويدعون إليه على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة , إذاً كأن الحق سبحانه يلفت انتباه نبينا عليه الصلاة والسلام ويلفت انتباهنا إلى أن الإنشغال بالعبادات الظاهرية كالصلاة والذكر والصيام والقيام بمعزل عن دعوة الناس وتوجيههم إلى ما يصلحهم ويصلح نفوسهم وضمائرهم يجعل الناس يفسدون ويعم فسادهم ويختصمون لأتفه الأسباب وقد يسفكون دماء بعضهم ويهتكون أعراض بعض لذلك , وحينها ويتسع الخرق على الراقع ويحتاج كل عشر مواطنين إلى قاضي ومركز أمني وتتعقد فيهم الجريمة ويتشاجرون لأتفه الأسباب ويغيب الآيثار وتُحْضِر النفوس الشُح , ولماذا جُعِلَ الدين المعاملة لأن الدين الذي لا يمكن عكسه تطبيقاً وسلوكاً عملياً في واقع الحياة ولا يؤدي دوره في إصلاح الحياة فهو ليس بدين إنما هو هرطقات وطقوس لا يابه بها الحق سبحانه وهذا الأمر فهمه اصحاب الرسول رضي الله عنهم فما الذي يحمل عمر الفاروق رضي الله عنه بمقولته المشهورة " لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها لما لم تمهد لها الطريق يا عمر " والعراق كانت تشمل ايران والعراق وعامة أهلهما على غير الاسلام وهدايتهم مقصده وسيحاسبه الله على موتهم من غير الهداية فلماذا أبرز وقدم تعبيد وتمهيد طريق البغلة على هداية الناس , لأنه أدرك ان تحقيق مصالح الناس ورعاية شؤونهم وشؤون دوابهم واشيائهم هي الطريق الأسرع لهدايتهم لأنه لا يفعلها إلاّ اصحاب دين حقيقي جدير بالاعتناق , فالناس سئموا الهرطقة والطقوس التي لا تحقق في الأمة مصالحها ولا تتقدم بها خطوة واحدة للأمام , بل يتحول أصحابها إلى جامعي تبرعات ومساعدات من الناس تنفق على ملذاتهم , بل لا يحقق اصحابها مصالحهم إلاّ على حساب الناس , والفساد في إزدياد ولا يملكون إلاّ الصلوات والدعاء وهم لا ينفعلون لما يجري بهم وحولهم كشأن العابد الذي ذكره رسولنا عليه الصلاة والسلام أن الله سبحانه أمر بخسف أرض في إحدى الأمم السابقة فقالت الملائكة يارب فيها عبدك الصالح فلان قال به فابدؤوا فإنه لم يتمعَّر (أي لم يتغير) وجهه مرة من اجلي .
فمن لا ينفعل لتغير نفسه والواقع الذي هو فيه فهو ليس بجدير بالاستخلاف ولو كان منشغلاً بالعبادة وجرت له وعلى يديه الكرامات .
ونعود إلى سيدنا داوود عليه السلام فبمجرد طرح المسألة عليه أدرك أن غيابه عن الساحة وتشاغله ـ عن ما هو أهم من عبادته التي لا ينتفع منها إلاّ هُوَ ـ عن العبادة الحقيقية في إصلاح الناس الذين بصلاحهم وصبره عليهم يرتقي إلى أعلى الدرجات ويكون بها جديراً بالاستخلاف , عندها ادرك مقصد الامتحان الذي وقع له فخر راكعاً تائباً إلى خالقه منيباً إليه عادلاً عن سلوكه الذي توهم أنه الصواب وتشاغل به عن مصالح الناس فحصل بغيابه عنهم أن إختلطت عليهم الأمور وفشى البغي والظلم بينهم على اتفه الأسباب وهناك إستحق الاستخلاف في الأرض فجاء قول الحق بعد هذه الفتنة ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) من سورة ص ) وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه أقرَّ خطاب الخصمان اللذان تسوروا المحراب حينما طلبا من داوود عليه السلام أن يحكم بينهما بالحق ولا يشطط وهنا ينهى الحق سبحانه نبيه داوود عن اتباع الهوى ويذكر له أنه السبيل المضل حتى للأنبياء فضلاً عن ما عداهم من العباد والعلماء الذين هم دون منزلة الأنبياء ويزيد التوضيح الرباني بأن هذا الهوى المضل سواءٌ كان بالعبادات التي تشغل عن مقاصد خلق الإنسان الذي هو سبيل الله في الأرض والذي وضحه الحق لنبينا و أمته بقوله تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)سورة يوسف .فسبيل الله هو الدعوة على بصيرة لمقصد هداية الناس وقيامهم على مقصدهم في هذه الحياة .
فانظروا لو أن عمال النظافة ورجال السير والأمن والقضاة والأطباء ورجال الإطفاء والدفاع المدني تشاغلوا عن أعمالهم وافتقدناهم من الشوارع والمحاكم ودوائرهم وسألنا عنهم فقيل لنا أنهم اليوم صيام عكفوا في المساجد يعبدون الله ويذكرونه وهم قائمون الليل وسيعطونكم يومين في الاسبوع والباقي لربهم سيعكفون به في المساجد والمحاريب , فما ترون كيف سيصير حال الأمة؟ ستتراكم عليهم القاذورات و ستَعُم الفوضى وستكثر المشاجرات والحوادث على كل مفترق طريق وستكثر الجريمة ويأكل الناس بعضهم , فما بالك إذا غاب عن الساحة الأنبياء وورثتهم من العلماء والدعاة ورجال الفكر والإصلاح .
ولكن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام عندما قام على واجب رسالته ونذر ليله ونهاره لها ولم تشغلة عبادة عن تعبده في تعليم الناس ما يصلحهم في دنياهم ومعادهم ولم يتشاغل عن مصالحهم بأية عبادة فصبر نفسه معهم يعلمهم الدعوة إلى هذا الدين , فنظر في شؤونهم وفي خلافاتهم مع بعضهم وخلافات اليهود فيما بينهم وخلافاتهم مع دوابهم وجاء أنه صلى الله عليه وسلم في قصة البعير الذي ندّ عن صاحبه، أن بيّن له وقال: (بعيرك يشتكي كثرة الكلف وقلة العلف )، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن يرفق بالحيوان ولا يكلف فوق طاقته.
فمن كان جُلُّ وقته لدعوته فيصبح عليه حصانٌة من الله في وقت راحته ولو كان القادمون يبتغون الاسلام كبني تميم ويتدخل الحق سبحانه ليقرر هذه الحقيقةّ فمقيله مُحَصَن ٌ من الله لمقتضبات الرسالة ومتطلباتها, ومن تشاغل عن هذه المهمة جاز إفزاعه ولو كان يتعبد في محرابه وهدرت حرمة خصوصيته , لأنه مُعَطِلٌ لمقصد استخلافه في الأرض والذي عناه الله في قوله على لسان الملائكة "اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" فبقعود العلماء والمصلحين والدعاة عن مهمتهم يكثر الفساد وسفك الدماء والمخاصمات التي تُعْجِزُ القضاء , ولمّا قام الرسول على مهمته وأصحابه من بعده قلت الخصومات بل اصبح قضاتهم لا عمل لهم لأن الناس عرفوا مالهم وأدّوا ما عليهم وآثر بعضهم بعضاً فكيف يتخاصمون .
والفائدة الأخرى أن الله سبحانه ذكر أن صلح الحديبية هو الفتح العظيم وعظمة هذا الفتح هو أن يكون سبباً لهداية الناس ودخولهم في الإسلام فجهد عشرون سنة من البعثة حصيلته ألف معتمر في مشوار عمرة الحديبية وبعد وصول رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة عائداً , تفد عليه أكبر قبيلة من قبائل العرب عدداً وشجاعة وشوكة فتواجه جرأتها على رسول الله بهذا التقريع الرباني والذي فيه إظهار واضح لنبوة الرسول عليه الصلاة والسلام فلو كان الأمر له, لخرج إليهم هاشاً باشاً في وجوههم متحاملاً على نفسه أمام جرأتهم عليه وجهلهم في التأدب معه مقابل إسلامهم أو حتى دخولهم في حلفه , ولكن تدخل الحق سبحانه مباشرةً وهو إذن من الله سبحانه أن يا محمد لقد قمت بواجبك حق القيام ومن معك من المؤمنين ونجحتم في الاختبارات المتعددة وآخرها الحديبية فاستأهلتم واستحققتم الفتح المبين برحمة الله بجدارة وهو دخول الناس في دين الله أفواجاً فأنتم الآن لستم بحاجة لأحد ولا لِمِنَةِ أحد من خلقة , فالقبائل التي ستأتيكم هي التي بحاجة الإسلام والدخول في رحمة الله التي تنهض بهم في الدنيا والآخرة .