والقاعدة الرابعة في قوله تعالى ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ {4}وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {5}))
وقيل نزلت هذه الأيات بحق وفد تميم عندما حضروا إلى المدينة ووافوا مسجد رسول الله بعد الظهيرة وكان عليه الصلاة والسلام في لحظات مقيله فارتفعت اصواتهم في المسجد و أخذوا ينادون يا محمد اخرج علينا نفاخرك فآذى ذلك النبي فنزلت الايات لأن الرسول الكريم ولما تقدم من صفاته هو بشر تتلقى عنه الجموع من البشر منهم الوافد ومنهم المقيم وعليه حقوق تجاه جسده كبشر من الطعام والنوم والمقيل وقضاء الحوائج البشرية وعليه حقوق تجاه أزواجه , فإذا كل شخص قدم من المدينة أو من خارجها يريد أن يقابله الرسول عليه الصلاة والسلام بمجرد وصوله ففي هذا مشقة على رسول الله , لذلك نهاهم عن مناداته أو رفع أصواتهم في المسجد ليعلم حضورهم , واعتبر الله سبحانه أن ذلك من قلة العقل وقلة الأدب , وأرشدهم أن الواجب أن ينتظروا خروجه من تلقاء نفسه حيث أنه من أحرص و أعرف الناس بواجبه ومن أتقى خلق الله لله , وأن الله سيغفر لهم هذه الخطيئة لعدم علمهم السابق بهذه الآداب ولجفائهم لأن بعضهم في البادية وعرف اهل البادية بالجفاء.وهذا الأدب ينسحب أثره على كل الذين تصدوا للعمل العام من قضاء حوائج الناس أو المشي في مصالحهم أو تعليمهم والنظر في نزاعاتهم والحكم فيها إلى نحو ذلك , حرصاً على راحتهم ليستمر عطاؤهم ولتمكينهم من أداء حقوق اهليهم الذين باستقرارهم يزيد تركيز هولاء الأشخاص وعطاؤهم .
وفي هذا المقام يجدر بنا أن نذكر فائدة من واقعة حصلت مع نبي الله داوود عليه السلام ونبي الله داوود ذكر باوصاف ومزايا قل أن ذكر بمثلها نبي فقال الله جل جلاله بحقه (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)من صورة البقرة ))( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)من سورة الاسراء (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)من سورة الانبياء (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)من سورة النمل (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) منسورة سبأ (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18 ) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) من سورة ص )
فمن النصوص القرآنية المتقدمة نلاحظ أن الله أجرى من الفضل والمعجزات والكرامات قلَّ أن تجد مثيلها في ما ذكر عن الأنبياء وقال بحقه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام " خَيْرُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ ""فقال إن أخى داود كان أعبَدَ البشر وإنه كان يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر " .
وأمام النصوص المتقدمة من الكتاب والسنة في فضل سيدنا دوود عليه السلام ولكنه عندما تسوَّر عليه الخصمان المحراب وهو قائم يصلي ويتعبد والتسُّور منافي لأدب الدخول فالبيوت لا تدخل إلاّ من ابوابها ويُستأذن قبل الدخول فما بالك بمن يتسوَّر الأسوار وسور المحراب عالي وفعلهم الشنيع أفزع نبي ورسول ومقاتل وشجاع ومثله لا يفزعه الاّ الشيء المهول ثم تكلما معه بقلة ادب واحترام فقالا له " فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ" ورغم ذلك لم يعنفهم الحق سبحانه والمسألة التي جاءوا بها لا تحتاج لقاضي ضليع فهي مسالة تافهة يحلها أبسط الاشخاص ثم كيف بغا بعضكم على بعض فالذي طلب ضم النعجة الواحدة إلى نعاجه الكثيرة ظاهر حاله باغٍ ولكن اين بغي صاحب النعجة الواحدة وهو يعترف بالبغي لكنهما تكلما بلسان واحد " قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا"وهذا فيه اشارة عظيمة على كل مسلم ان يتنبه لها ففي الآيات التي وردت في سورة (ص) بدأت بقول الحق سبحانه" اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ"
أي لا يغيب عن بالك قصة داوود عليه السلام رغم قوته وجَلَدِه وما حققه من مواصفات ومعجزات وكرامات فلماذا فزع وهو من المرسلين والمرسلون لا يخافون إلاّ في حالة واحدة كما ذكر الحق سبحانه في قوله (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) سورة النمل )
إلاّ من ظلم فأين ظلم لمن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً على مدى الدهر ويقوم نصف الليل في كل ليلة من حياته وجعل يوماً لربه يتعبده ويوماً لأهله ويوماً يقضي فيه بين الناس ويقرأ المزامير والزبور ويتعبد الله بهما كل وقته وبصوته الجميل الذي جعل الجبال تردد معه والطير محشورة له فهذه المعجزات والكرامات التي كانت له بفضل عبادته المميزة , ويخاف بسبب ظلمه عليه السلام , وكأن الحق سبحانه يُقِرُ فِعل من تسوَّروا عليه المحراب !